السعودية والاختيارات المتاحة

النظام العالمي مكون من عدة حلقات لكل منها ميزان قوى خاص بها . في أواخر فترة الحرب الباردة كانت الهيمنة الأمريكية ذات وجه اقتصادي، خاصة عندما كان العالم لم يزل ذا قطبين على الصعيد العسكري. وبعد نهاية الحرب الباردة أصبح العالم آحادي القطب عسكرياً ومتعدد الأقطاب اقتصاديا .إن أمريكا هي قوة لها الدور البارز في مختلف المصادر المعروفة للنفوذ والهيمنة وسيبقى هذا التفوق البارز ولكن لن يكون طاغياً في الحلبة الاقتصادية. يؤكد المسؤولون الأمريكيون والمحللون أن واشنطن ستبقى القوة البارزة في عالم لم تكمل فيه الهند أو الصين صعودهما إلى موقع القوة

مع نهاية الحرب العالمية الأولى 1918 كان الناتج القومي للولايات المتحدة الأمريكية مساوياً لإنتاج كل الدول الكبرى مجتمعة. وفي عام 1945. (بعد نهاية الحرب العالمية الثانية) أصبحت أمريكا تنتج نصف الإنتاج العالمي.

أعلن (بول كنيدي) المؤرخ المشهور عن انهيار وشيك للإمبراطورية الأمريكية كالانهيار الذي أصاب العديد من القوى الكبرى قبلهم . ويأتي هذا الاعتراف بالحقيقة المرة من منطلق أن المجموع الكلي لمصالح ومقدرات بلادهم أكبر بكثير من قدرتها على الدفاع عنها جميعاً .

وأعلن (ستون جون إيكنبرى) أستاذ العلوم السياسية في جامعة برن أن انهيار القدرة الاقتصادية والسياسية والعسكرية لأمريكا أصبح واضحاً وأن اليابان قد تخطت الولايات المتحدة في مجال التكنولوجيا .

كما أعرب مدير مجلة فورن أفيرز المتخصصة عن أسفه لرؤية أمريكا تتحسر على انهيارها في جدل عقيم وأضاف: إنها لأول مرة في تاريخهم لا يعرف الأمريكيون إذا كان الجيل القادم سيكون أفضل وضعاً من الحالي أم لا!.

استخدمت الولايات المتحدة الأمريكية في هيمنتها على العالم، التهديد السوفيتي كذريعة لبسط سيطرتها كما اعتمدت على نظام عالمي مؤسس على السلم والاستقرار والتكامل الاقتصادي لتوسيع الحدود الأمنية للولايات المتحدة بكل سهولة ورأت أن واجبها لا ينحصر في الدفاع عن مصالحها الخاصة فقط ، بل عن مصالح حلفائها وأصدقائها. واعتمدت أمريكا سياسة منع أصدقائها من الحصول على الوسائل اللازمة لحماية مصالحهم الخاصة، وإقامة سياج حولهم حتى لا يصبحوا منافسين لها، وكان الحفاظ على نظام عالمي آحادي القطب واللجوء إلى كافة الوسائل لإحباط طموح أي دولة من الأهداف الأكثر أهمية بالنسبة لها ، جاء ذلك بشكل واضح في مسودة واستراتيجيات الأمن القومي..

غير أن حرب الكويت ودعوات النجدة التي سمعت في مختلف أنحاء العالم والتي طالبت الإمبراطورية الأمريكية بالتدخل والمساعدة في إنهائها، ساهمت بشكل فعال في إعادة بسط هيمنة أمريكية في المنطقة.

إن منطق القوة أحياناً كثيرة يؤدي للهوس بها وتبدو القوى العظمى حينها وكأنها أصيبت بنوع مقلق من النرجسية والانبهار بذاتها وبعظمتها وتتحول إلى بطل مدعية اختيار الله لها دون غيرها وبتكليفها برسالة سماوية خاصة وذلك بالفعل ما فعلته إدارة بوش، فأصبح يتصرف كالمهووس الذي انقاد لقوته بدلاً من أن يتحكم فيها دون أن يتبصر العواقب ولا يتساءل عن هول آثارها على الآخرين.

عندما أصيبت أمريكا _ذلك العملاق_ في 11 سبتمبر إصابة بالغة في قلبها وفي ميدانها الخاص وعلى أرضها ذهل الأمريكيون من هول مصيبتهم كأنهم فقدوا السمع والبصر. وسارعوا لمعاقبة الجميع حتى يثبتوا للعالم ولأنفسهم قدرتهم الفائقة والمتمثلة في هول كثافة نيرانهم. وسرعان ما ظهرت لهم محدودية القدرة العسكرية كوسيلة من وسائل التأثير الأخرى التي تمتلكها الدول مثل الإقناع أو الدبلوماسية أو اللجوء إلى القوانين الدولية.ودل ذلك على ضعف إدارة بوش على نحو مثير وغير مألوف وأصبح ينظر إليها من نواح كثيرة على أنها انقطعت عن العالم، وكسبت عداء كثير من أجزائه.

مصادر القوة "الخشنة"، أي القوة العسكرية للولايات المتحدة أجهدت من خلال حربين غير شرعيتين وخسارة حربين متزامنتين في العراق وأفغانستان.

وساد العالم من جراء ذلك جو من الفوضى نجم عنها تآكل نفوذ وقدرات الأمم المتحدة ممثلة في مجلس الأمن، والصعود السياسي غير المسبوق للولايات المتحدة الأمريكية التي أصبحت "القطب الأوحد" الذي يهيمن على النظام العالمي بعد انهيار النظام ثنائي القطبية .
الهيمنة المطلقة تعني من بين ما تعنيه أن ما تقوله الولايات المتحدة الأمريكية في أي شأن اقتصادي أو سياسي أو ثقافي يصبح قانوناً لا رجعة فيه. وأن من حقها وحدها مخالفة المعاهدات الدولية، أو خرقها أو الانسحاب منها. وأن إرادتها هي الإرادة المطلقة، وأنها وحدها المشرّع العالمي في شؤون الحرب والسلم وفي ميادين الاقتصاد والبنية والدفاع بل الثقافة أيضاً!

وفجأة وعلى غير توقع انطلق المارد الروسي من جديد، وقام بحملة عسكرية تأديبية رداً على حماقة رئيس جورجيا الذي ظن واهماّ أنه مدعوم دعماً مطلقاً من الولايات المتحدة الأمريكية. الحملة كانت محاولة مخططة من قبل روسيا كانت تنتظر الوقت المناسب لتنفيذها لإعادة التوازن إلى النظام الدولي المختل بحكم الهيمنة المطلقة التي تمارسها الولايات المتحدة الأمريكية. إن الهجوم الروسي العسكري العنيف، هو بداية النهاية للهيمنة الأمريكية المطلقة على شؤون العالم. ويشهد على ذلك عجز الولايات المتحدة . روسيا دخلت المعركة وهي مسلحة بقوتها الاقتصادية وسيطرتها على تدفقات الغاز إلى أوروبا، بالإضافة إلى قوتها العسكرية المستعادة في إطار دولة عظمى بدأت تستعيد دورها المفقود.

لقد بدأت الدول الغربية تراجع مواقفها، بعد تصميم روسيا على إعادة التوازن للنظام الدولي، وبداية الانتقال من عصر القطب الأوحد إلى عصر تعددية الأقطاب.

أخيرا، إنه عالم جديد يتشكل أمام أبصارنا. ترى ما هو موقفنا من هذه الحركة العالمية التي تتجه إلى تعددية الأقطاب؟ هل قرأت القيادات العربية منطق هذا التحول وأعدّوا أنفسهم للنظام الدولي الجديد؟

لقد أضعنا فرصة ما كان يسمى بالنظام العالمي الجديد ونحن أمام استحقاق أخطر يتمثل في بوادر أفول نجم وصعود نجوم يجب أن لا نستخف بها أو أن نجلس مع المتفرجين في المقاعد الخلفية, وكأن الأمر لا يهمنا وقراراتنا و مصيرنا نتركها بيد الآخرين . بمعنى نصبح أمة بدون أي تأثير حتى ولو على أقدارنا. الأمل كبير بتحرك الحكماء وخاصة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله لإطلاق مبادرة مصارحة ومصالحة تنقل العرب إلى طريق السلامة والسلام وتدرأ عنهم الأخطار وتنجيهم من شرور الحرب الباردة الجديدة ومطامع القوى الأجنبية والإقليمية .

الخلاصة

يجب على المملكة أن تبدأ بمراجعة حساباتها الاقتصادية أولاً وهي فك الارتباط بالدولار والنداء بتسعير وبيع البترول بعملات مختلفة .

جميع احتياطاتنا بالدولار وغير مستثمرة ( سندات الخزينة والودائع لا يعتبر استثماراً مباشراً) أمريكا عاجلاً أم أجلاً سوف تطبع البلايين من الأوراق النقدية وتسدد ديونها إلى الآخرين وهذا ما سوف تفعله. وأعرب (مارك فايبر) خبير سويسري دولي يحمل درجة الدكتوراه في الاقتصاد عن تفاؤله بارتفاع الدولار الأمريكي على المدى القصير إلا أنه يتوقع أن يعاود الهبوط على المدى البعيد إلى أن تصبح قيمته معدومة ولذا ينصح جميع الدول المرتبطة عملاتها بالدولار بفك هذا الارتباط.